لوحة بلا ألوان

لوحة بلا ألوان

في قرية صغيرة تقع على أطراف الغابة، عاش رسام يُدعى “سامر”. كان مشهورًا بقدرته على تحويل أي شيء إلى لوحة فنية نابضة بالحياة. كانت ألوانه تتراقص على القماش كما لو أن الأرواح تختبئ فيها. لكن سامر كان يحمل في داخله سراً عميقاً، فقد توقف منذ سنوات عن رسم أي شيء ملون.

في زاوية مرسمه المتهالك، كانت هناك لوحة كبيرة بيضاء. لم يقترب منها أحد سوى سامر. كانت تلك اللوحة بالنسبة له رمزًا لصراعه الداخلي. كلما أمسك بفرشاته، جلس أمامها لساعات طويلة، يحاول أن يبدأ، لكنه كان يتوقف دائمًا. لم يكن يعلم أحد سبب إحجامه عن الرسم عليها، حتى أصدقاؤه المقربون كانوا يحترمون صمته.

ذات يوم، بينما كان سامر جالسًا على عتبة منزله، جاءه طفل صغير يُدعى “عمر”. كان عمر معروفًا في القرية بحبه للرسم، لكنه لم يكن يمتلك أدوات مناسبة. نظر الطفل إلى سامر بعينين مليئتين بالأمل وسأله:

“عمي سامر، لماذا لا ترسم على تلك اللوحة الكبيرة؟”

ابتسم سامر بحزن وقال:

“ليست كل اللوحات بحاجة إلى ألوان يا بني.”

تردد عمر للحظة ثم قال:

“ولكن كيف تعرف ما إذا كانت بحاجة إلى ألوان إن لم تحاول؟”

كلمات عمر ضربت على وتر حساس داخل سامر. قرر في تلك اللحظة أن يروي قصته لأول مرة.

قال له:

“منذ سنوات، كنت أرسم كل يوم، وكانت الألوان رفيقتي في كل لحظة. كنت أشعر بالسعادة عندما أرى لوحاتي تزين جدران المنازل والمحال. لكن في يوم من الأيام، حدث أمر غيّر حياتي. فقدت أعز أصدقائي في حادث مأساوي. كان يُحب لوحاتي كثيرًا، وكان دائمًا يقول لي إن الألوان هي مرآة الروح. بعد رحيله، شعرت أن ألواني خذلتني، وأنها أصبحت فارغة بلا معنى. توقفت عن الرسم بالألوان، ولم أعد أستطيع استخدامها.”

نظر عمر إلى سامر وقال بحماس:

“ولكن ربما تحتاج إلى أن ترى الألوان بشكل مختلف، أن تراها كرسالة، وليست مجرد صبغات!”

تفاجأ سامر من عمق كلمات الطفل، لكنه لم يُظهر ذلك. بدلاً من ذلك، قرر أن يعطي عمر فرصة لإثبات كلامه.

في اليوم التالي، دعا سامر عمر إلى مرسمه، وأعطاه اللوحة البيضاء وفرشاة. قال له:

“أرني كيف ترى الألوان.”

بدأ عمر بالرسم بحماسة. كان يمزج الألوان بطريقة غير تقليدية، يضع البقع عشوائيًا ثم يدمجها، حتى بدأت تتشكل صورة غريبة لكنها جميلة. كانت اللوحة تمثل مشاعر أكثر من كونها صورة واضحة.

عندما انتهى عمر، نظر سامر إلى اللوحة بدهشة. لأول مرة منذ سنوات، شعر بشيء يتحرك في قلبه. لم تكن اللوحة مجرد صورة، بل كانت حياة.

قال سامر:

“لقد نجحت يا عمر. ألوانك ذكرتني بشيء كنت قد نسيته: الألوان ليست مجرد ظلال، بل هي انعكاس لما في الداخل. ربما كنت خائفًا من مواجهة ما بداخلي.”

في تلك الليلة، جلس سامر أمام لوحته البيضاء وأمسك فرشاته. لكنه هذه المرة، لم يشعر بالخوف. بدأ بالرسم ببطء، وضع ضربات صغيرة من الألوان. مع كل حركة، شعر وكأنه يُفرغ حملاً ثقيلاً عن كاهله.

استمر لساعات طويلة، حتى انتهى مع شروق الشمس. عندما نظر إلى لوحته، لم يكن يرى مجرد ألوان، بل قصة حياته، حزنها وفرحها، كل ما عاشه.

في اليوم التالي، عرض سامر لوحته في الساحة الرئيسية للقرية. تجمع الناس حولها بإعجاب، لكن ما جذب انتباه الجميع هو العنوان الذي وضعه سامر تحت اللوحة:
“لوحة بلا ألوان”.

عندما سأله أحدهم عن السبب، قال سامر بابتسامة:

“الألوان ليست فقط ما نراه بأعيننا، بل ما نشعر به بقلوبنا. هذه اللوحة تحمل ألوانًا لا تُرى، لكنها تُحس.”

منذ ذلك اليوم، عاد سامر للرسم، لكنه تعلم درسًا جديدًا. لم يكن يرسم فقط ليُرضي الآخرين، بل ليتصالح مع نفسه. وأصبح عمر مساعده الدائم، يُذكره دائمًا بأن الألوان الحقيقية لا تأتي من الخارج، بل من أعماق الروح.

وهكذا، أصبحت لوحة بلا ألوان رمزًا للتجديد والتصالح مع الذات، ودرسًا بأن الحياة، بكل ما فيها من ألم وأمل، تستحق أن تُعاش بكل ألوانها.