اللحن الذي لا ينتهي

في قرية نائية تقع بين أحضان الجبال، عاش رجل يُدعى نادر، عُرف بين أهل القرية بموهبته الفريدة في العزف على الناي. كان نادر يصنع ألحانًا تحمل بين طياتها مشاعر البشر من حب وحزن وفرح وألم. لكن أروع ألحانه وأكثرها غموضًا كانت تُعرف باسم “اللحن الذي لا ينتهي”.

بدأت القصة عندما كان نادر طفلًا صغيرًا. في يومٍ من الأيام، أثناء تجواله في الغابة المحيطة بقريته، عثر على ناي خشبي قديم بين جذور شجرة عتيقة. بدا الناي وكأنه صُنِع بأيدي حِرفي ماهر، وكانت عليه نقوش غامضة لم يستطع نادر فهمها. منذ اللحظة التي وضع فيها الناي على شفتيه، شعر وكأن روحه تتصل بشيء أكبر من العالم الذي يعرفه.

مع مرور السنوات، أصبح نادر سيد العزف على هذا الناي. كان أهل القرية يأتون لسماع ألحانه التي تحملهم إلى عوالم من السكينة والجمال. لكن عندما بدأ يعزف “اللحن الذي لا ينتهي”، كانت الأمور تأخذ منحى آخر. كان هذا اللحن قادرًا على جذب الكائنات من كل مكان؛ الطيور تهبط من السماء، الحيوانات تتجمع حوله، وحتى الرياح تتوقف وكأنها تستمع.

الغريب في هذا اللحن أنه لم يكن له بداية واضحة ولا نهاية معروفة. كان يتدفق بسلاسة وكأنما يُكتب في اللحظة ذاتها. قال بعض كبار السن في القرية إن هذا اللحن مرتبط بأسطورة قديمة عن روح موسيقية تُدعى “أنسام”. قيل إن أنسام كانت روحًا تسكن الغابة وتُحب الموسيقى. وعندما تجد قلبًا نقيًا يُحب الموسيقى بصدق، تهب له جزءًا من سحرها.

لم يكن نادر يُصدق هذه القصص في البداية، لكنه لاحظ شيئًا غريبًا: كلما عزف “اللحن الذي لا ينتهي”، كان يشعر بتغير داخلي. كان يشعر بأنه أقرب إلى فهم سر الحياة، وكأن الموسيقى تكشف له عن حقائق الكون المخفية.

وذات ليلة، وبينما كان نادر يعزف هذا اللحن في ساحة القرية تحت ضوء القمر، حدث ما لم يكن في الحسبان. اقتربت منه فتاة غريبة المظهر، بشعر فضي يلمع كضوء النجوم وعينين تعكسان عمق المحيطات. قالت بصوت هادئ: “نادر، أنت من اختارتك أنسام لتكون حارس اللحن الأبدي. لكن عليك أن تعرف أن هذه الموهبة تأتي بثمن.”

تفاجأ نادر وسألها: “من أنت؟ وما هو هذا الثمن؟”

ابتسمت الفتاة وقالت: “أنا تجسيد لروح أنسام. لقد منحتك اللحن لأنه ينبع من قلبك النقي. ولكن اللحن الذي لا ينتهي ليس مجرد موسيقى، إنه اتصال بين عالم البشر وعالم الأرواح. إذا استمريت في عزفه، ستصبح جزءًا من هذا اللحن، وستترك عالم البشر إلى الأبد.”

شعر نادر بالحيرة. كان يعشق الموسيقى، لكنها كانت أيضًا وسيلته للتواصل مع أهله وأحبائه. لم يكن مستعدًا لفقدان كل ما يعرفه. سألها: “هل هناك طريقة لإيقاف هذا اللحن؟”

أجابت الفتاة: “الطريقة الوحيدة لإيقاف اللحن هي أن تعثر على شخص يملك قلبًا نقيًا مثلك ليكمل المهمة. يجب أن يكون قادرًا على سماع نغمة الروح التي لا يسمعها إلا القليلون.”

منذ ذلك اليوم، بدأ نادر رحلة بحث طويلة. كان يعزف اللحن في أماكن مختلفة، يبحث عن الشخص الذي يشعر بصلة عميقة مع الموسيقى. في إحدى الأمسيات، وبينما كان يعزف على ضفة نهر، اقتربت منه فتاة صغيرة تدعى ليلى. كانت عينيها تلمعان بالدهشة والحب للموسيقى. قالت له: “هذا اللحن… أشعر وكأنه يتحدث إلى روحي.”

أدرك نادر أنه وجد الشخص المناسب. بدأ في تعليم ليلى كيفية العزف على الناي، وكيف تستمع إلى نغمات الروح. كانت ليلى تتعلم بسرعة مذهلة، وكأنها وُلدت لهذا الدور.

ومع مرور الوقت، بدأ نادر يشعر بأن اللحن يتحرر منه تدريجيًا. وفي ليلة مقمرة، قرر أن يعزف “اللحن الذي لا ينتهي” مع ليلى للمرة الأخيرة. عندما انتهيا، شعر نادر بسلام داخلي لم يشعر به من قبل. نظر إلى ليلى وقال: “الآن، أصبح اللحن ملكًا لك. استخدميه بحكمة.”

اختفى نادر في تلك الليلة، وكأن الأرض ابتلعته. لكن ليلى استمرت في عزف اللحن، وأصبح الناس يقولون إن الموسيقى التي تعزفها تحمل روح نادر و”أنسام” معًا. وهكذا، بقي “اللحن الذي لا ينتهي” حيًا، يربط بين قلوب البشر وروح الموسيقى، ويُذكر الجميع بأن الفن الحقيقي لا ينتهي أبدًا.