الأمواج وسر الماضي

الأمواج وسر الماضي

على شاطئ مهجور، حيث تتعانق السماء الزرقاء مع الأفق البعيد، كانت الأمواج تهمس بحكايات قديمة، لا يسمعها إلا من ينصت بعناية. هناك جلست ليلى، فتاة شغوفة بالقصص والأساطير، وهي تتأمل البحر الذي بدا وكأنه ينبض بالحياة.

كانت ليلى تأتي إلى هذا الشاطئ كل يوم منذ وفاة جدها، الذي كان يروي لها الحكايات عن زمن مضى، عن بحارة شجعان وسفن تقاوم العواصف. لكن اليوم كان مختلفًا؛ شعرت ليلى وكأن الأمواج نفسها تناديها.

اقتربت بخطوات مترددة من المياه. غمرت قدميها الصغيرة وهي تشعر ببرودة خفيفة. فجأة، جاءت موجة أكبر، تلامسها بلطف، وكأنها تحاول لفت انتباهها. سمعت همسًا رقيقًا، لكنه واضح.

“ليلى…”

تجمدت في مكانها. منادٍ خفي ينبعث من الموج؟ هل هذا صوت البحر؟ ترددت للحظة، ثم همست:
“من أنت؟”

جاء الرد كهمسة عميقة مليئة بالحنين:
“أنا الأمواج، حاملة ذكريات الزمن. لدي قصص أريد مشاركتها معك.”

جلست ليلى، والمياه تحتضن قدميها. بدأت الأمواج تروي:

“منذ قرون بعيدة، كان هذا الشاطئ مرسى لسفن تسافر إلى أقاصي الأرض. البحارة كانوا يغنون أغاني الأمل، محملين بالكنوز والحكايات. ولكن يومًا ما، جاءت عاصفة هوجاء، وغرقت إحدى السفن هنا. لم تكن مجرد سفينة؛ كانت تحمل صندوقًا من الرسائل التي كتبتها قلوب محبة، وأسرارًا لم تُفشَ أبدًا.”

سألت ليلى، وعيناها تتلألآن بالفضول:
“وما الذي حدث لتلك الرسائل؟”

تابعت الأمواج بحزن:
“بللتها مياه البحر، وامتلأت بالرمال، لكنها لم تختفِ. صارت جزءًا مني، تُكتب على صفحتي مع كل مدّ وجزر. منذ ذلك الحين، أحمل ذكريات هؤلاء الذين أبحروا ولم يعودوا، وأحكيها لمن يستمع.”

تأملت ليلى البحر بعينين دامعتين، ثم قالت:
“جدّي كان يقول دائمًا إن البحر يحتفظ بكل شيء. هل تذكره؟”

هزّت الأمواج بلطف وكأنها تبتسم:
“كان يحب الجلوس هنا، مثلما تفعلين الآن. كان يقول لي أسراره، ويحكي لي عن أحلامه. ترك أثراً لن يُمحى.”

ابتسمت ليلى، وقد شعرت بالراحة لأول مرة منذ فترة طويلة. أدركت أن البحر ليس مجرد ماء وأمواج؛ إنه صندوق ذاكرة عملاق يحتفظ بكل من مرّ به.

وفي تلك اللحظة، وعدت ليلى البحر أن تعود كل يوم، لتستمع إلى حكايته وتروي له حكاياتها أيضًا.

وهكذا، أصبحت ليلى وحيدة البحر وصديقته التي تحفظ أسرار الزمن، تنقلها لمن يريد أن يسمع، فيصير الماضي حيًا بين أمواج لا تكف عن الغناء