حين تنطق الجدران

حين تنطق الجدران

في أحد الأحياء القديمة، كان هناك منزل عتيق يروي حكايات الزمن بين جدرانه المتصدعة. المنزل كان يملكه رجل عجوز يُدعى “الحاج عمران”، الذي كان يعتبره أهل الحي ذاكرة المكان وراوي أسراره.

البداية

الحاج عمران عاش وحيدًا في منزله منذ وفاة زوجته قبل سنوات عديدة. كان يقضي وقته في التأمل في جدران المنزل التي امتلأت بالشقوق والنقوش الغريبة. كان يقول دائمًا: “هذه الجدران شاهدة على أشياء لا تعرفونها، ربما لو نطقت، لروت لنا حكايات الزمن الغابر”.

ذات ليلة عاصفة، وبينما كان المطر يتساقط بغزارة، جلس الحاج عمران على كرسيه الخشبي المعتاد في زاوية الغرفة، يحتسي كوبًا من الشاي الساخن. فجأة، سمع صوتًا غريبًا، أشبه بالهمسات. ظن في البداية أنه تأثير الرياح، لكن الصوت ازداد وضوحًا، وكأنه ينبعث من الجدران نفسها.

أولى الكلمات

اقترب الحاج عمران من الجدار الأقرب إليه، ووضع أذنه عليه. سمع صوتًا هادئًا يقول: “أنا الجدار الذي بنيته يداك يا عمران، أتذكر؟”. تجمد العجوز في مكانه، وشعر بقشعريرة تسري في جسده. “من أنت؟ وكيف تتحدث؟”، سأل بصوت مرتعش.

رد الجدار: “أنا ذاكرة هذا المنزل. كل جدار يحمل حكاية، وكل شق يحمل ذكرى. هل تريد أن تسمع؟”

الحكايات القديمة

بدأ الجدار يسرد قصصًا من الماضي، عن أيام البناء الأولى، حين كان عمران شابًا قويًا يعمل بجد لبناء منزله بأيديهم. تحدث الجدار عن لحظات السعادة التي عاشها عمران مع زوجته وأطفاله، وعن الأيام التي امتلأ فيها البيت بالضحك والحياة. “أتذكر يوم زفاف ابنتك؟ كانت هذه الغرفة ممتلئة بالزينة، وكانت الضحكات تصدح في كل ركن.”

ابتسم الحاج عمران بحزن وقال: “نعم، أذكر تلك الأيام جيدًا. لكن كل شيء تغير الآن. أصبحت وحيدًا، والجدران فقط تذكرني بما فقدت”.

الأسرار المدفونة

استمر الجدار في الكلام، لكنه هذه المرة بدأ يسرد قصصًا لم يكن عمران يعرفها. “هناك أشياء لا تعرفها يا عمران. هناك سر دفن في هذا المنزل منذ سنوات طويلة.” سأل عمران بدهشة: “أي سر؟”

أخبره الجدار عن صندوق صغير مدفون تحت الأرضية الخشبية للغرفة. قال الجدار: “هذا الصندوق كان ملكًا لزوجتك. كانت تحتفظ به دائمًا، ولم تخبر أحدًا بمحتواه.”

شعر الحاج عمران بالفضول والخوف في آن واحد. حمل مصباحًا قديمًا وبدأ يحفر في الأرضية حيث أشار الجدار. وبعد جهد كبير، وجد الصندوق. فتحه بحذر ليجد داخله مجموعة من الرسائل القديمة وصور لم يكن قد رآها من قبل. كانت الرسائل مكتوبة بخط يد زوجته، وتحمل كلمات حب وحنين. اكتشف أن زوجته كانت تحتفظ بهذه الذكريات لأنها كانت تعلم أن الحياة لا تدوم، وأرادت أن تترك له شيئًا يخفف وحدته.

النهاية

عاد الحاج عمران إلى كرسيه، يحتضن الصندوق بين يديه. شكر الجدران على كشفها لهذا السر، وشعر بأن المنزل لم يعد مجرد مكان، بل أصبح كائنًا حيًا يشاركه حياته.

منذ تلك الليلة، أصبح الحاج عمران يقضي وقته في الحديث مع جدران المنزل، يستمع إلى حكاياتها، ويشاركها مشاعره. شعر بأن الوحدة تلاشت، وأن الزمن عاد ليحيط به من جديد.