ظل في العتمة

كان الليل قد أرخى سدوله على المدينة، حيث لا يُسمع إلا صوت الرياح التي تهب على النوافذ، وصوت قطرات المطر التي تتساقط بانتظام. في هذا الهدوء المريب، كانت “ليلى” تجلس في غرفتها، متكوّرة في زاوية السرير، تقرأ كتابًا عن الأساطير القديمة. الغرفة كانت تضاء بمصباح صغير يُلقي بظلال طويلة على الجدران، مما أعطى للمكان جوًا من الغموض.

لكن شيئًا ما كان يثير قلق ليلى. كانت تشعر بوجود شيء غريب، كأن هناك عيونًا تراقبها من العتمة. حاولت تجاهل هذا الشعور وركزت في قراءة الكتاب، ولكنها لم تستطع التخلص من تلك القشعريرة التي تسري في جسدها.

في تلك الليلة، وبينما كانت الساعات تمضي ببطء، لاحظت ليلى شيئًا غريبًا. ظلٌ يتحرك على الجدار المقابل لها، رغم أن المصباح ثابت ولم يتغير موقعه. ارتجفت للحظة، وحاولت إقناع نفسها بأن ما رأته مجرد وهم بسبب التعب. لكن الظل استمر في التحرك، وكأنه كائن حي يتسلل عبر الجدران.

نهضت ليلى ببطء، متوجهة نحو مصدر الضوء، لكنها لم تجد شيئًا غير عادي. المصباح في مكانه، والنافذة مغلقة، فلا مجال لدخول أي ضوء خارجي. عادت إلى سريرها محاولةً تهدئة نفسها، لكن الظل كان هناك، يتحرك ببطء، يقترب شيئًا فشيئًا.

في تلك اللحظة، قررت ليلى مواجهة مخاوفها. أمسكت بمصباح يدوي صغير كان موضوعًا بجانب السرير ووجهت الضوء نحو الظل. لكن بدلاً من أن يختفي، تلاشى الضوء في العتمة، وكأن الظل يبتلع النور. اتسعت عينا ليلى رعبًا وهي ترى الظل يتحول إلى كيان ملموس، يأخذ شكل رجل طويل القامة بملامح غامضة.

قال الكيان بصوت عميق ومخيف: “لا تخافي، يا ليلى. أنا ظل، جزء من هذا العالم المخفي الذي لا ترينه إلا في اللحظات التي تلتقي فيها العتمة بالنور.”

تراجعت ليلى إلى الخلف وهي ترتجف، لكنها قررت أن تظهر شجاعة لم تكن تعلم أنها تملكها. “من أنت؟ وماذا تريد مني؟” سألت بصوت متقطع.

أجاب الكيان: “أنا مجرد رسول. هناك أسرار كثيرة في هذا العالم لا يعرفها البشر. لقد تم اختيارك لتكوني شاهدة على هذا الجانب المظلم، لأنه فقط من خلال فهم العتمة يمكننا تقدير النور.”

رغم الخوف الذي كان يسيطر عليها، شعرت ليلى بشيء من الفضول. “ولماذا أنا بالذات؟ ماذا تريدون مني؟”

اقترب الكيان خطوة، لكن الغريب أنه لم يكن يثير الرعب كما كانت تتوقع. كان هناك شيء مألوف في حضوره، كأنه ظل جزءًا من حياتها منذ زمن بعيد. قال: “لأنك مختلفة، يا ليلى. لديك قدرة على رؤية ما وراء الظاهر. لديك شجاعة البحث عن الحقيقة، حتى لو كانت مخيفة.”

في تلك اللحظة، بدأت الذكريات تعود إلى ليلى. تذكرت الليالي التي كانت تستيقظ فيها مذعورة بسبب كوابيس عن ظلال تلاحقها. وتذكرت الحكايات التي كانت جدتها ترويها لها عن عوالم خفية تتقاطع مع عالمنا.

سألت ليلى: “هل كانت جدتي تعرف عنكم؟”

ابتسم الظل، وكانت ابتسامته مزيجًا من الحزن والغموض. “جدتك كانت واحدة منا. لقد ورثتِ منها هذه القدرة. لكنها اختارت ألا تخوض الرحلة بالكامل. أما أنت، فأمامك خيار: إما أن تكتشفي هذه العوالم، أو تعودي لحياتك الطبيعية، لكنك لن تكوني قادرة على تجاهل ما رأيته.”

ترددت ليلى. كان الخيار صعبًا. جزء منها أراد العودة إلى حياتها البسيطة، وجزء آخر كان متحمسًا لاستكشاف هذا العالم الغريب. في النهاية، سألت: “وإذا اخترت اكتشاف هذه العوالم، ماذا سيحدث لي؟”

قال الظل: “ستتعلمين أن النور والعتمة وجهان لعملة واحدة. ستواجهين مخاوفك، وستكتشفين قدراتك الحقيقية. لكن يجب أن تعلمي أن هذه الرحلة ليست سهلة. ستحتاجين إلى الشجاعة والإيمان بنفسك.”

وافقت ليلى، رغم القلق الذي كان يملأ قلبها. شعرت أن هذا هو قدرها، وأنها لن تستطيع الهروب منه. أمسك الظل بيدها، وشعرت ببرودة تسري في جسدها. وفجأة، اختفى كل شيء.

وجدت ليلى نفسها في مكان مختلف تمامًا. كانت تقف في وسط غابة مظلمة، لكن الأشجار كانت تتوهج بضوء خافت وكأنها تحمل أسرارًا قديمة. شعرت بشعور غريب من السكينة، وكأنها وصلت إلى المكان الذي كانت تبحث عنه طوال حياتها.

ومنذ تلك اللحظة، بدأت ليلى رحلتها في اكتشاف العوالم الخفية، وتعلمت أن الخوف ليس إلا بوابة للمعرفة، وأن الظلال ليست دائمًا عدوًا، بل قد تكون دليلًا نحو النور.