رسائل بلا عنوان

رسائل بلا عنوان

في مدينة صغيرة تتوسّد هدوء البحر وتكتنفها الجبال، عاشت “ليلى”، فتاة تحمل شغفًا خاصًا بالكلمات، ولكنها كانت تكتب دون أن ترسل. كانت ليلى تسكن في منزل قديم ذي جدران مزخرفة بألوان الباستيل، وكان أكثر ما يميّز غرفتها صندوقًا خشبيًا صغيرًا يحمل في داخله أوراقًا صفراء باهتة، كل منها تحمل رسالة بلا عنوان.

لم يكن أحد يعلم عن سرّ تلك الرسائل، حتى أختها الصغرى “ريم” التي كانت الأقرب إليها. كانت ليلى تنعزل كل مساء بجانب نافذتها المطلة على البحر، وتبدأ بالكتابة. كان أسلوبها يشبه حوارًا داخليًا عميقًا مع أشخاص لم تلتقِ بهم أبدًا، ولكنها شعرت بوجودهم في مكان ما، كأنهم ينتظرون تلك الكلمات.

البدايات الغامضة

بدأت ليلى كتابة هذه الرسائل منذ سنوات، عندما تلقت يومًا مظروفًا أبيض بلا عنوان مرسل. فتحت المظروف بحذر لتجد داخله ورقة مطوية كتبت عليها جملة واحدة:
“ليس كل شيء يجب أن يُقال، ولكن كل شيء يجب أن يُحسّ.”

منذ ذلك اليوم، شعرت ليلى أن هناك رسالة غير مرئية قد أرسلت لها، وعليها أن ترد عليها. ولكن لمن؟ لم تكن تعلم.

الرسائل الأولى

كانت الرسائل الأولى قصيرة وبسيطة. تحدثت فيها عن يومياتها، عن الأشجار التي تتمايل في الحديقة، وعن الموجات التي تتكسر على الشاطئ. مع مرور الوقت، أصبحت تلك الرسائل أشبه باعترافات عميقة. كانت تكتب عن أحلامها، مخاوفها، وخيباتها. لم تكن تتوقع أن يقرأها أحد، لكنها كانت تشعر بالراحة كلما انتهت من الكتابة.

اللقاء الغريب

ذات مساء عاصف، وبينما كانت تسير على الشاطئ، لاحظت شيئًا يطفو على المياه. كان زجاجة صغيرة مختومة بإحكام، وفي داخلها ورقة. التقطت الزجاجة بفضول، وعندما فتحتها وجدت رسالة مكتوبة بخط يد أنيق:
“إلى من لا أعرفها، لكنني أشعر بها… هل تؤمنين بأن الكلمات يمكن أن تعبر البحار؟”

ارتجف قلب ليلى. شعرت أن هناك من يشاركها نفس الشعور الغامض تجاه الكتابة. في تلك الليلة، كتبت رسالة جديدة، ولكنها قررت هذه المرة أن تضعها في زجاجة وترميها في البحر.

سلسلة من الرسائل

أصبحت ليلى تتلقى رسائل غامضة بين الحين والآخر، وكل واحدة تحمل طابعًا خاصًا. كانت هناك رسائل تتحدث عن الشجاعة، وأخرى عن الوحدة، وبعضها عن الحلم والحب. في كل مرة كانت ترد عليها بطريقتها الخاصة، ولكنها لم تكن تعلم من يرسلها.

في أحد الأيام، قررت ليلى أن تتبع إحدى الزجاجات التي أرسلتها. جلست على الشاطئ لساعات تراقب الزجاجة وهي تسبح بين الأمواج حتى اختفت عن ناظريها. شعرت بالحنين والغموض، وكأنها فقدت جزءًا من نفسها في تلك المياه.

الحقيقة تنكشف

مرت سنوات، وتزايدت الرسائل التي تتلقاها ليلى. أصبحت الكلمات أكثر دفئًا وأقرب إلى قلبها. وذات يوم، وبينما كانت تقلب إحدى الرسائل، لاحظت توقيعًا صغيرًا في زاوية الورقة. كان التوقيع بسيطًا، ولكنه كافٍ ليكشف عن سر كبير:
“حسن، من بعيد.”

حاولت ليلى البحث عن أي شخص يدعى حسن في مدينتها الصغيرة، لكنها لم تجد شيئًا. بدافع الفضول، قررت كتابة رسالة خاصة قالت فيها:
“يا حسن البعيد، هل لك أن تقترب؟”

وضعت الرسالة في زجاجة وألقتها في البحر.

اللقاء المنتظر

بعد أسابيع، وبينما كانت تجلس في مقهى قريب من الشاطئ، دخل رجل يحمل زجاجة زرقاء في يده. كان يرتدي معطفًا بسيطًا، وعيناه تحملان حيرة ودفئًا غريبين. تقدم نحو ليلى وسألها:

هل أنتِ من تكتبين الرسائل؟

شعرت ليلى بمزيج من المفاجأة والسعادة. أومأت برأسها وهي تبتسم.

روى لها حسن قصته، وكيف كان يعيش في جزيرة صغيرة قريبة. كان يكتب الرسائل ويلقيها في البحر ليشارك جزءًا من روحه مع العالم، ولم يكن يتوقع أن يرد عليه أحد. عندما بدأت رسائل ليلى تصل إليه، شعر أن هناك من يفهمه دون أن يلتقي به.

نهاية البداية

أصبح حسن وليلى يتقابلان باستمرار، وتحوّلت الرسائل بلا عنوان إلى رسائل تحمل كل المعاني. أدركا أن الكلمات التي كتبها كل منهما على مر السنين كانت جسرًا غير مرئي جمع بين قلبيهما.

في النهاية، قررت ليلى أن تحتفظ بالصندوق الذي كان يحمل رسائلها القديمة، ولكنها أضافت إليه رسائل حسن، لتظل شاهدًا على قصة حب بدأت بكلمات بلا عنوان، وانتهت بحكاية لا تنسى.

النهاية