النافذة التي لا تُفتح

النافذة التي لا تُفتح

في زاوية غرفة صغيرة في منزل قديم يقع في إحدى القرى الهادئة، كانت هناك نافذة غريبة لا تُفتح. لم تكن النافذة عادية، بل كانت مصنوعة من خشب عتيق مزيّن بنقوش دقيقة، وزجاجها ملوّن يعكس ألوان الطيف عند سقوط أشعة الشمس عليه. كانت هذه النافذة تُثير فضول كل من يراها، لكنها حملت لغزًا ظلّ عصيًّا على الفهم لسنوات طويلة.

كان المنزل ملكًا لرجل عجوز يُدعى “الحاج سعيد”، عاش فيه وحده بعد وفاة زوجته ورحيل أولاده إلى المدينة. كان سعيد رجلًا ودودًا، لكنه لم يكن يتحدث أبدًا عن تلك النافذة. كان كل من يسأله عنها يحصل على إجابة غامضة أو نظرة صامتة، وكأن الحديث عنها أمر محرّم.

البداية

كان الفضول يتملّك الأطفال في القرية، وخاصة “سامر”، الطفل الذي كان يبلغ من العمر عشر سنوات. كان سامر مغامرًا بطبعه، واعتاد أن يروي لأصدقائه قصصًا عن النافذة، مدّعيًا أنها بوابة لعالم آخر، أو أن وراءها كنزًا مخفيًا. لكن كل تلك القصص كانت من نسج خياله، إذ لم يجرؤ أبدًا على الاقتراب منها.

ذات يوم، وبينما كان سامر يلعب بجوار منزل الحاج سعيد، لاحظ أن العجوز ترك باب المنزل مواربًا. لم يستطع مقاومة فضوله، فتسلل إلى الداخل بخطوات خفيفة. كانت الغرفة التي تحتوي على النافذة تبدو كأنها محمية بهالة غامضة. عندما اقترب منها، شعر بنسيم بارد يلفح وجهه، رغم أن الجو كان حارًا في الخارج.

مدّ يده بحذر ليلمس زجاج النافذة، لكنه تفاجأ بشيء غريب. الزجاج كان دافئًا على نحو غير مألوف، وكأن هناك حياة تدبّ داخله. فجأة، سمع صوت خطوات خلفه، فالتفت ليجد الحاج سعيد واقفًا عند الباب.

السرّ المدفون

ابتسم الحاج سعيد ابتسامة هادئة، لكنه قال بصوت مليء بالجدية:
“هذه النافذة ليست كما تظن يا سامر. إنها تحمل ذكريات وآلامًا لا يفهمها إلا من عاشها.”

جلس سامر على الأرض، وقد تغلّب عليه مزيج من الخوف والفضول. شعر بأن الحاج سعيد قد قرر أخيرًا أن يكشف له السرّ. بدأ العجوز يتحدث بصوت منخفض كأنه يخشى أن يسمعه أحد:

“هذه النافذة كانت هدية من زوجتي الراحلة. صنعناها معًا قبل خمسين عامًا، ووضعنا فيها قطعة من روحنا. كنا نؤمن أن الحب الحقيقي يمكن أن يُخلّد بشيء مادي. لكن مع مرور الوقت، اكتشفنا أن النافذة ليست مجرد نافذة عادية. كانت تعكس ذكرياتنا وأحلامنا، لكنها أيضًا بدأت تحتفظ بكل لحظات الحزن التي مررنا بها.”

صمت قليلًا، ثم أضاف:
“بعد وفاة زوجتي، حاولت فتح النافذة لأتنفس هواءً جديدًا وأطرد الحزن، لكنها لم تُفتح. كأنها اختارت أن تظل مغلقة لتحبس آلامي بداخلها. ومنذ ذلك اليوم، قررت ألا أحاول فتحها مجددًا.”

التغير الغريب

مرت الأيام بعد هذا اللقاء، وسامر أصبح يزور الحاج سعيد بانتظام. كان يشعر بأن العجوز يريد أن يروي المزيد عن النافذة، لكنه لم يضغط عليه. وفي إحدى الزيارات، لاحظ سامر أن النافذة بدأت تتغير. ألوان الزجاج أصبحت باهتة، والنقوش الخشبية بدت وكأنها تذبل.

سأل سامر الحاج سعيد عن هذا التغير، فردّ بصوت حزين:
“كلما اقتربت روحي من الرحيل، بدأت النافذة تفقد بريقها. يبدو أن الروابط التي جمعتها بزوجتي تتلاشى مع مرور الوقت.”

النهاية

في يوم من الأيام، توقفت زيارات سامر لأن الحاج سعيد لم يعد يفتح الباب لأحد. قلق أهل القرية عليه، فقرروا الدخول إلى المنزل. وجدوا الحاج سعيد جالسًا على كرسيه قرب النافذة، وقد فارق الحياة بسلام.

لكن المفاجأة كانت في النافذة نفسها. لأول مرة منذ سنوات، كانت النافذة مفتوحة، وأشعة الشمس تغمر الغرفة بألوانها الزاهية. كأن النافذة اختارت أن تتحرر في اللحظة التي غادر فيها صاحبها الحياة.

ظل أهل القرية يروون قصة الحاج سعيد والنافذة التي لا تُفتح لأجيال. أما سامر، فقد كبر وأصبح كاتبًا، وخلّد قصة النافذة في كتابٍ أصبح شهيرًا. كانت النافذة رمزًا للحب والألم، وللحياة التي تحبسنا أحيانًا في ذكرياتها، لكنها في النهاية تمنحنا الحرية.