الغريب في الزقاق الضيق

في أحد الأحياء القديمة ذات الأزقة الضيقة التي لا تكاد تتسع لمرور شخصين جنبًا إلى جنب، كانت الحياة تسير على وتيرتها المعتادة. تُطِلُّ المنازل بأبوابها الخشبية المتآكلة ونوافذها الصغيرة التي تكاد لا تسمح إلا بشعاع خافت من الضوء. كان الحي يعجُّ بالأصوات: أصوات الباعة الجائلين، وصياح الأطفال، وضحكات النساء أثناء غسل الملابس عند النافورة الوحيدة في الزقاق. لكن في ذلك اليوم، خيَّم صمت غريب على المكان.

ظهر رجل غريب في الزقاق، لا يعرفه أحد من أهل الحي. كان طويل القامة، يرتدي معطفًا أسود قديمًا، وقبعة تخفي جزءًا كبيرًا من وجهه. كانت عيناه تلمعان بحدة تحت ظل القبعة، وكأنهما تبحثان عن شيء محدد. وقف عند مدخل الزقاق، يتفحص المكان كمن يقرأ كتابًا مفتوحًا.

تجمَّع الأطفال في زاوية الزقاق يراقبونه بفضول، وهمسوا فيما بينهم:

– من يكون هذا الرجل؟
– ربما هو تاجر يبحث عن منزل ليشتريه.
– لا، أظنه لصًا!

لم يُعرهم الرجل أي اهتمام. بدأ يمشي ببطء، وصوت خطواته على الأرض الحجرية كان يتردد كأنه إعلان بوجوده. توقف عند نافذة صغيرة تطل منها سيدة مسنة، وسألها بصوت هادئ لكنه يحمل نبرة آمرة:

– هل تعرفين منزل عائلة الرفاعي؟

ارتبكت السيدة، ونظرت إليه بحذر قبل أن تشير بيدها المرتعشة نحو نهاية الزقاق:

– هناك، في آخر الزقاق.

أومأ الرجل برأسه وشكرها بصوت خافت، ثم تابع طريقه.

في ذلك الوقت، كانت شائعة ظهوره تنتشر في الحي بسرعة البرق. خرج الرجال من منازلهم، ووقفوا عند الأبواب يراقبونه بحذر. كان واضحًا أن وجوده يثير قلق الجميع، خاصة وأن اسم عائلة الرفاعي كان مرتبطًا بأسرار قديمة في الحي.

وصل الغريب إلى منزل عائلة الرفاعي. كان باب المنزل مختلفًا عن باقي أبواب الحي، مزينًا بنقوش قديمة كأنها تروي حكايات من الماضي. طرق الباب ثلاث مرات. لم يفتح أحد. انتظر لحظة، ثم طرق مرة أخرى.

– من الطارق؟

كان الصوت يأتي من الداخل، صوت رجل عجوز لكن فيه نبرة حزم.

– أنا… زائر قديم.

فتح الباب ببطء، وظهر رجل مسن ذو لحية بيضاء طويلة ووجه يحمل آثار الزمن. نظر إلى الغريب بتفحص، ثم قال:

– لم أرك منذ سنوات طويلة. لماذا عدت الآن؟

دخل الغريب دون أن يجيب، وأغلق الباب خلفه.

تجمهر أهل الحي أمام المنزل، يتساءلون عما يحدث في الداخل. كانت التكهنات تدور حول أسباب زيارة هذا الرجل. البعض قال إنه قادم لتصفية حسابات قديمة، وآخرون قالوا إنه ربما جاء لاسترداد دين.

داخل المنزل، كان الجو مشحونًا بالتوتر. جلس الغريب على كرسي خشبي متآكل، وخلع قبعته، كاشفًا عن وجه يحمل ندوبًا قديمة. نظر إلى العجوز وقال:

– جئت من أجل الحقيقة.

تردد العجوز للحظة، ثم قال:

– الحقيقة دائمًا لها ثمن.

– وأنا مستعد لدفعه.

أخذ الرجلان يتحدثان بصوت منخفض، وكأنهما يتبادلان أسرارًا دفينة. كان من الواضح أن الأمر يتعلق بحدث قديم، شيء حاول الجميع نسيانه، لكن ظلاله ما زالت تطاردهم.

خارج المنزل، كان الترقب يزداد. قرر أحد الشبان، ويدعى سامر، الاقتراب من النافذة لمعرفة ما يجري. استرق السمع، لكنه لم يتمكن من فهم الكثير. سمع فقط كلمات متقطعة: “خيانة”، “كنز”، “لعنة”.

فجأة، فتح الباب بقوة، وخرج الغريب مسرعًا، وعيناه تشتعلان بالغضب. نظر إلى الجمع المحتشد أمام المنزل وقال بصوت عالٍ:

– الحقيقة دائمًا تظهر، حتى لو حاولتم دفنها!

ثم مضى مسرعًا نحو مدخل الزقاق، تاركًا الجميع في حالة من الذهول.

بعد مغادرته، بدأ أهل الحي يتحدثون بصوت عالٍ، يتساءلون عن طبيعة تلك الحقيقة التي أشار إليها. العجوز الرفاعي خرج من منزله بعد دقائق، بدا عليه الإرهاق وكأنه يحمل جبلاً من الهموم. وقف أمام الجمع وقال:

– اسمعوني جيدًا. ما حدث اليوم يجب أن يبقى هنا، في هذا الزقاق. الغريب كان يبحث عن ماضٍ لا يخصه وحده، بل يخصنا جميعًا.

لكن فضول الناس كان أكبر من قدرتهم على الصمت. بدأوا في طرح الأسئلة على العجوز، لكن كل ما فعله هو أن أدار وجهه وعاد إلى منزله دون أن ينطق بكلمة أخرى.

بقي الزقاق في حالة من الاضطراب لعدة أيام. لم يظهر الغريب مرة أخرى، لكن أثره ظل باقيًا. الأطفال كانوا يعيدون تمثيل المشهد، والنساء يتحدثن عنه في جلسات الغسيل، والرجال يحاولون فك لغز الحقيقة التي أشار إليها.

أما سامر، فقرر أن يأخذ الأمور بيده. كان يؤمن أن الحقيقة تستحق أن تُعرف، مهما كان الثمن. بدأ يبحث في كتب قديمة تركها والده، ويستجوب كبار السن في الحي، ويحاول جمع قطع الأحجية. اكتشف سامر أن الحي كان مركزًا لحادثة قديمة تتعلق بكنز مدفون تحت أحد المنازل، و—وفقًا للأساطير—كان الكنز يحمل لعنة أصابت كل من حاول الاقتراب منه.

في إحدى الليالي، بينما كان سامر يحفر في أرضية منزله، وجد صندوقًا صغيرًا. فتحه ببطء، ليجد داخله خريطة قديمة وبعض العملات الذهبية. شعر بالفرح والخوف في آن واحد. كان يعلم أن هذه ربما تكون بداية كشف الحقيقة التي تحدث عنها الغريب.

لكن مع بزوغ أول خيوط الفجر، بدأ سامر يسمع أصواتًا غريبة في الزقاق. كانت خطوات، تشبه خطوات الغريب. وعندما فتح الباب لينظر، وجد الظلام يلف الزقاق مرة أخرى، وكأن شيئًا ما ينتظره.