الحلم الأخير

الحلم الأخير

في إحدى ليالي الشتاء الباردة، حيث كان الظلام يهيمن على المدينة والصمت يلف الشوارع المهجورة، جلس “سالم” في غرفته المتواضعة، يحدق في السقف بشرود. لم يكن هذا مجرد مساء عادي؛ بل كان ليلة ستغير حياته للأبد، وإن لم يعلم ذلك بعد.

سالم، شاب ثلاثيني يعمل في وظيفة روتينية بأحد المصانع. حياته لم تكن أبداً كما أراد، فأحلامه القديمة تبخرت وسط ضغوط الحياة ومسؤولياتها المتزايدة. كان يشعر بأن شيئاً ما مفقود في حياته، كأن هناك نداء غامض يحاول الوصول إليه منذ زمن طويل.

في تلك الليلة، شعر بإرهاق شديد جعله يغفو على سريره دون أن يقاوم. وما إن أغمض عينيه حتى وجد نفسه في مكان مختلف تمامًا. كان يقف في حقل واسع لا نهاية له، تتراقص ألوانه بين الأخضر والأصفر، تحت سماء مشعة بنجوم لم يرها من قبل. كان المشهد مبهرًا، لكن في أعماقه كان يعلم أن هذا ليس مجرد حلم عادي.

لم يمضِ وقت طويل حتى سمع صوتًا ناعمًا يناديه من بعيد:

“سالم… تعال، لقد حان وقتك”.

تجمد مكانه للحظة. من أين يأتي هذا الصوت؟ نظر حوله ولم يجد أحدًا، لكن الصدى ظل يتكرر وكأن الأرض نفسها تناديه. تقدم سالم بخطوات مترددة حتى وصل إلى شجرة ضخمة تقف وحيدة في وسط الحقل. جذورها امتدت إلى عمق الأرض وكأنها تحتضن الكوكب نفسه.

عند أسفل الشجرة، وجد سالم رجلاً عجوزاً يجلس بهدوء، كانت ملامحه مألوفة رغم أن سالم لم يره من قبل قط. كانت عينيه تشعان بحكمة عمرها مئات السنين. نظر إليه العجوز بابتسامة هادئة وقال:

“كنت أعلم أنك ستأتي في النهاية. هذا هو حلمك الأخير يا سالم”.

تسمر سالم في مكانه، وازدادت دهشته: “حلمي الأخير؟ ماذا تعني؟”.

رد العجوز: “طوال حياتك كنت تطارد أحلامًا غير مكتملة. كل مرة كنت تستسلم قبل النهاية، وتترك أحلامك تتلاشى في طيات الزمن. هذا المكان يمثل كل ما فقدته من فرص، كل الأفكار التي دفنتها بيديك. لكن الآن لديك فرصة أخيرة لتحقيق الحلم الحقيقي”.

تردد سالم للحظة: “لكن… لقد نسيت حتى ما هي أحلامي. كيف أستطيع تحقيق شيء لا أتذكره؟”.

ضحك العجوز برفق وقال: “كل ما عليك فعله هو البحث بداخلك. الأحلام لا تموت، بل تختبئ بانتظارك”.

بدأ سالم ينظر حوله بتمعن. مع كل خطوة يخطوها، كان يرى مشاهد من حياته تُعرض أمامه كأنها شريط سينمائي. رأى نفسه صغيرًا، يحمل كتابًا ويكتب قصصًا صغيرة. تذكر أنه كان يحلم بأن يصبح كاتبًا عظيمًا، لكن سخرية الآخرين وخوفه من الفشل جعلته يبتعد عن هذا الطريق.

تابع المسير فرأى نفسه شابًا، يعزف على الجيتار في ليلة هادئة مع أصدقائه، وكيف كانت الموسيقى تشعره بالحرية. لكنه ترك هذه الموهبة جانبًا عندما قرر أن “الحياة الجادة” لا تحتمل مثل هذه الأحلام.

في كل مشهد، شعر سالم بلسعة ندم، كأنما الأحلام التي تركها كانت تتهمه بالتخلي عنها. حين عاد إلى الشجرة مجددًا، كان وجهه شاحبًا وعيناه ممتلئتان بالدموع. قال للعجوز: “لقد أضعت الكثير من الفرص… كيف أستعيد كل هذا؟”.

ابتسم العجوز وقال: “لم يفت الأوان بعد يا سالم. الحلم الأخير لا يعني النهاية؛ بل هو البداية الحقيقية. الآن اختر شيئًا واحدًا فقط من أحلامك القديمة، وعد إلى الحياة لتقاتل من أجله”.

فكر سالم بعمق، ثم قال بحزم: “الكتابة. أريد أن أصبح كاتبًا. هذا ما كنت أتمناه طوال حياتي”.

فجأة، بدأت الشجرة تضيء بضوء ذهبي ساحر، وبدأت الأرض تهتز بلطف تحت قدميه. شعر سالم بشيء غريب يسحبه من المكان. أغمض عينيه بقوة، وحين فتحهما مرة أخرى، وجد نفسه مستلقيًا على سريره في غرفته المظلمة.

نهض سالم بسرعة وهو يتنفس بصعوبة. نظر حوله ولم يكن هناك أي أثر للحلم، سوى ورقة صغيرة على الطاولة لم يتذكر أنه وضعها هناك. كان مكتوبًا عليها: “ابدأ الآن، لا تنتظر الغد”.

منذ تلك الليلة، قرر سالم أن يغير حياته. استقال من وظيفته وبدأ يكتب أولى قصصه. لم يكن الأمر سهلاً، لكنه هذه المرة لم يستسلم. نشر أول كتاب له بعنوان “الحلم الأخير”، ليحكي قصته وقصة كل شخص فقد أحلامه وسط زحمة الحياة.

مع مرور الوقت، أصبح سالم كاتبًا معروفًا، تلهم قصصه الآخرين للبحث عن أحلامهم المفقودة. وعندما سُئل يومًا عن سر نجاحه، ابتسم وقال: “الحلم الأخير لم يكن مجرد حلم؛ بل كان نداءً للعودة إلى نفسي”.

وهكذا انتهت قصة سالم، لكنها بدأت لقارئ جديد قد يكون حلمه الأخير

ينتظره في مكان ما، فقط إن قرر البحث عنه.